بوح :تنفس الصعداء
بوح

بوح :تنفس الصعداء

بوح : تنفس الصعداء

النوع: درامي، رمزي، إنساني
الزمن: غير محدد، دائري
المكان: ذاكرة سجلت مالم يسجله مصور بعدسة كاميرتة


المشهد الأول: التكرار

في أماكن لا يتغير فيها شيء، تتكرر المشاهد كأن الزمن أصيب بخلل في ذاكرته.
صباح جديد… أو لعلّه قديم؟ الأصوات ذاتها، العطر ذاته، الوجوه نفسها، حتى ربطة الشعر تتخذ نفس الهيئة، فقط الألوان تبدّلت وكأنها محاولة فاشلة لإخفاء التكرار.

امرأة تجلس على المقعد ذاته، تمسك بكوب عصير، تنظر للأفق دون تركيز.
رجل خمسيني يفتح جريدته بتثاقل، يتجاهل السياسة والأخبار ويقفز مباشرة إلى صفحة الأبراج…
ربما يبحث عن بصيص أمل في دنيا أثقلته ولم تترك له من الأيام إلا ما يُقرأ.

في زاوية أخرى، طفلان يتشاجران بصوت عالٍ حول المرجوحة الوحيدة في الحديقة.

“أنا وصلت أول!”
“لكنني لم ألعب منذ الأمس!”

صوتهما يخترق سكون المشهد، في لحظة عبثية تشبه صراعات الكبار، لكنها أوضح.

بجانبهم، أمّ تمسك بهاتفها، تُجري مكالمة مع زوجها المغترب.
ترفع صوتها وهي تنادي ابنتها الصغيرة:

“تعالي شوفي أبوك… بسرعة قبل ما يقطع الاتصال!”

لكن الطفلة لا تجيب،
والمكالمة تنتهي دون وداع.

كل شيء يوحي بالغياب،
فالجميع حاضر جسديًا… وغائب شعوريًا.


المشهد الثاني: الغائب الحاضر

مائدة طعام دافئة، اجتمع حولها الجميع.
ضحكات خفيفة، أطباق مليئة، أحاديث بلا عُمق.

لكن أحدهم لم يحضر.

ذاك الرجل الذي بقي في عمله،
هو من دفع ثمن هذه المائدة… من جيبه ومن عمره.

لم يتذكره أحد أثناء الوجبة.
كأن الأكل كان كافيًا لملء البطون، لا القلوب.


المشهد الثالث: خيبة الطفولة

طفل صغير يمشي بخطوات حماسية باتجاه بائع الحلوى.
في كفه نقود صغيرة خبأها منذ الصباح.

لكن النقود ضاعت.

فتّش جيوبه بارتباك، انحنى أرضًا، فتّش نظراته، ثم قال بخجل:

“ضاعت نقودي…”

البائع يلتفت…
يصمت…
ولا يعطيه شيئًا.

الطفل يعود إلى مكانه بصمت.
لم يخبر أحدًا، لم يبكِ.
لكنه تعلّم:
أن بعض الخسارات الصغيرة لا يُعاد شرحها، فقط نحفظها في القلب، كندبة أولى.


المشهد الرابع: اللاشيء الذي يحدث دائمًا

الزمن لا يمشي… بل يدور.
الساعة توقفت في معصم المرأة، أو ربما تمشي ولا أحد يلاحظ.

الطفلان توقّفا عن الشجار،
أحدهما جلس على الأرض والآخر يراقب المرجوحة وهي تتأرجح وحدها.

الرجل أغلق الجريدة…
لا جديد في الأبراج.
ولا جديد في الحياة.

الأم لا تزال تمسك الهاتف، تنتظر رنينًا جديدًا… لا يأتي.

الفتاة جاءت متأخرة،
نظرت إلى الشاشة التي أُغلقت للتوّ، ثم سألت:

“راح بابا؟”

فأجابت الأم، بابتسامة باهتة:

“راح، بس رح يرجع يكلمك.”

لكنها تعلم… أن من يغيب أكثر من مرة، لا يعود كما كان.


المشهد الخامس: صوت إنساني

على الرصيف، جلس الطفل الذي أضاع نقوده.
لا يبكي بصوت، بل يتنفس بهدوء ثقيل.

اقتربت منه امرأة عجوز،
وضعت في يده قطعة حلوى دون أن تقول شيئًا.

ثم جلست قربه، بصوت دافئ:

“أحيانًا يا صغيري، ما نفقده لا يعود…
لكننا نتعلم كيف نحصل على غيره… أو نصبر عليه.”

ابتسم الطفل، ليس لأنه فهم، بل لأنه شعر أن أحدًا رآه.


ختام: نفس المقعد، نفس الغياب

الشمس تميل إلى الغروب.
الألوان تتلاشى بهدوء… لكن لا شيء ينتهي.

المقاعد كما هي، المرجوحة تتمايل،
الرجل يعود في اليوم التالي،
المرأة تعود أيضًا بكوب عصير جديد،
والأم لا تزال تمسك الهاتف.

فقط الطفل…
ربما سيكبر يومًا ويكتب عن هذا اليوم.


بوحٌ… هو ما لم يُقَل

الحكاية لم تنتهِ،
لأنها ليست حكاية واحدة،
بل عشرات القصص الصغيرة التي تحدث كل يوم،
تتشابه، تتكرر، وتُنسى.

وكل ما نفعله أحيانًا،
هو أن نتنفس الصعداء،
ثم نمضي…
وكأننا لم نكن هناك أبدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع محمي بقانون الالفية الملكية